الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قال: لا يعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: هاه ما كانت هذه تقاتل وربما يكون في قتالها كشف عورة المسلمين فيفرح به المشركون وربما يكون ذلك سبباً لجرأة المشركين على المسلمين ويستدلون به على ضعف المسلمين فيقولون: احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء على قتالنا فليتحرز عن هذا ولهذا المعنى لا يستحب لهن مباشرة القتال. إلا أن يضطر المسلمون إلى ذلك فإن دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز بل واجب. واستدل عليه بقصة حنين وقد بيناها وفي أواخر تلك القصة: قالت أم سليم بنت ملحان وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب: يا رسول الله أرأيت هؤلاء الذين فروا منك وخذلوك فلا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم فقال: صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم عافية الله أوسع فأعادت ذلك ثلاث مرات وفي كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أم سليم عافية الله أوسع وفي المغازي أنها قالت: ألا نقاتل يا رسول الله هؤلاء الفرارين فنقتلهم كما قاتلنا المشركين فقال صلى الله عليه وسلم: " عافية الله أوسع " وأية حاجة إلى قتال النساء أشد من هذه الحاجة حين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموه وفي هذا بيان أنه لا بأس بقتالهن عند الضرورة لأن الرسول لم يمنعها في تلك الحالة ولم ينقل أنه أذن للنساء في القتال في غير تلك الحالة. قال: ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة فتداوي الجرحى وتسقي الماء وتطبخ للغزاة إذا احتاجوا إلى ذلك لحديث عبد الله بن قرط الأزدي قال: " كانت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمجاهدين يرتجزن وهو يقاتل الروم والمراد العجائز فالشواب يمنعن عن الخروج الفتنة الحاجة ترتفع بخروج العجائز. فالشواب يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة الحاجة ترتفع بخروج العجائز. وذكر عن أم مطاع وكانت شهدت خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت أسلم حيث شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من شدة الحال فندبهم إلى الجهاد فنهضوا ولقد رأيت أسلم أول من انتهى إلى الحصن فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله علينا وهو حصن الصعب بن معاذ بالنطاة ففي هذا بيان أنها كانت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمنعها من ذلك فعرفنا أنه لا بأس للعجوز أن تخرج لإعانة المجاهدين بما يليق بها من العمل والله الموفق.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الجهاد واجب على المسلمين إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم فكان الثوري يقول: القتال مع المشركين ليس بفرض إلا أن تكون البداية منهم فحينئذ يجب قتالهم دفعاً لظاهر قوله: وقال تعالى: حتى لو اجتمعوا على تركه اشتركوا في المأثم وإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم فعليه أن لا يعطل الثغور ولا يدع الدعاء إلى الدين وحث المسلمين على الجهاد وإذا ندب الناس إلى ذلك فعليهم أن لا يعصوه بالامتناع من االخروج ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء جزية إذا تمكن من ذلك لأن التكليف بحسب الوسع. وإن كانوا قوماً لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان من العرب والمرتدين فإنه يدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا قاتلهم وأما المجوس وعبدة الأوثان من العجم في جواز أخذ الجزية منهم عندنا بمنزلة أهل الكتاب فيدعوهم إلى إحدى هاتين الخصلتين ويجب الكف عنهم إذا أجابوا إلى إحداهما وإن امتنعوا منهما فحينئذ يقاتلون وفي أهل الكتاب العربي وغير العربي سواء لقوله تعالى: قال: وإن قالوا للمسلمين: وادعونا على أن لا نقاتلكم ولا تقاتلونا فليس ينبغي للمسلمين أن يعطوهم ذلك لقوله تعالى: إلا أن يكون لهم شوكة شديدة لا يقوى عليهم المسلمون فحينئذ لا بأس بأن يوادعهم إلى أن يظهر للمسلمين قوة ثم ينبذ إليهم قال الله تعالى: إلا أن يكون لهم شوكة شديدة فحينئذ تجوز الموادعة معهم بغير مال يؤخذ منهم فلأن يجوز بمال يؤخذ منهم كان أولى وهذا المال لا يؤخذ عوضاً عن ترك القتال وإنما يؤخذ لأن مالهم مباح لنا فباعتبار تلك الإباحة يؤخذ هذا المال منهم. قال: فإذا أراد الخروج إلى الجهاد وله أبوان فليس ينبغي له أن يخرج حتى يستأذنهما لأن بر الوالدين وترك ما يلحق الضرر والمشقة بهما فرض عليه عيناً والجهاد فرض على الكافية. إذا لم يقع النفير عاماً فعليه أن يقدم الأقوى وفي خروجه إلحاق الضرر والمشقة بهما فإن المجاهد على خطر في التمكن من الرجوع. فإن أذنا له فليخرج وإن أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فليس ينبغي له أن يخرج مراعاة لحق الذي يأبى منهما وكذلك إن أبيا جميعاً والأصل فيه ما روي: أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني جئت أجاهد معك وتركت والدي يبكيان فقال: " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما " وأفضل الجهاد ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بالرجوع لكراهة الوالدين لخروجه ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: " الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله " فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد والوالدان في سعة من أن لا يأذنا له إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة لأنهما يحملانه على ما هو الأقوى في حقه وهو برهما وبهذا تبين أنه لا يسعه الخروج بغير إذنهما لأنه لو كان يسعه ذلك لكانا يأثمان في منعه ولو كانا يأثمان في منعه لكان هو في سعة من الخروج حتى يبطل عنهما الإثم. وكذلك إن كان مات أحد أبويه والآخر حي لأن السبب الموجب للبر في حق الحي منهما كامل. وإن كانا كافرين أو أحدهما كافر والآخر مسلم فكرها خروجه للجهاد أو كرهه الكافر منهما فإن كان إنما كره ذلك على وجه المخافة على نفسه والمشقة التي تلحقه بخروجه فلا ينبغي له أن يخرج لأنه في بر الوالدين يستوي الكافر والمسلم قال الله تعالى: لقمان: 15 والمراد الأبوان المشركان بدليل قوله تعالى: وإن كان إنما ينهاه عن ذلك كراهة أن يقاتل أهل دينه لا شفقة عليه فليخرج ولا يطعه لأنه إنما كره خروجه بسبب دعاه الشرك إلى ذلك لا الولاد وليس عليه طاعة في داعية الشرك وإنما يعرف ذلك بغالب الظن والرأي لأن فيما لا طريق إلى معرفة حقيقته يبنى الحكم فيه على أكثر الرأي. وهذا إذا كان لا يخاف عليه الضيعة فإن كان يخاف عليه من ذلك لم يحل له أن يخرج لأنه إذا كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فخدمته فرض عليه وإن كان كافراً وليس من الصواب أن يترك فرضاً عيناً ليتوصل إلى ما هو فرض كفاية ولن ما يفوته من تضييع والده لا يمكنه تداركه وهو يتمكن أن يتدارك الجهاد في وقت آخر. قال: وإن أذن له الأبوان وله جدان وجدتان فكرهوا خروجه فلا بأس بأن يخرج لأنه في حال قيام الوالدين الأجداد والجدات كالأجانب ألا ترى أن في حكم الحضانة والولاية واستحقاق الميراث هم كالأجانب فكذلك في المنع عن الخروج لا أمر لهم ما دام الوالدان حيين. فإن مات الأبوان فأذن له الجد الذي من قبل أبيه والجدة التي من قبل أمه ولم يأذن له الآخران - يعني: أب الأم وأم الأب - فلا بأس بأن يخرج لأن أب الأب عند عدم الأب قائم مقامه بدليل ثبوت الولاية له وأم الأم عند عدم الأم بمنزلتها بدليل ثبوت حق الحضانة لها والآخران معهما بمنزلة سائر الأجانب. وإن أذن له الآخران ولم يأذن له هذان لم يكن له أن يخرج وإن لم يكن له جدة من قبل أمه ولا جد من قبل الأب فاستأذن الآخرين فلم يأذنا له أو لم يأذن له أحدهما فالمستحب له أن لا يخرج لأن حق الحضانة لأن الأب عند عدم أم الأم وهي في ذلك بمنزلة الأم والجد أب الأم وإن لم يجعل كالأب في الولاية فقد جعل كالأب في حكم الأم والجد أب الأم وإن لم يجعل كالأب في الولاية فقد جعل كالأب في حكم القصاص وفي منع قبول الشهادة له وحرمة وضع الزكاة فيه فإذا لم يبق جد أقرب منه كان هو قائماً مقام الأب في منعه من الخروج أيضاً. وإن كان له أم وأب أب فأذن له أحدهما دون الآخر لم يسع له أن يخرج حتى تأذنا له لأن أب الأب بمنزلة الأب عند عدمه فكأن هذا ومن كان أبوه وأمه حيين في الحكم سواء. وإن لم يكن له أم وكانت له جدة من قبل الأم وجدة من قبل الأب فحق الإذن للتي من قبل الأم خاصة ألا ترى أنها في الحضانة مقدمة على الأخرى والجدة التي من قبل الأب لا تقوم مقام الأب بدليل أنه لا تثبت لها الولاية كما تثبت للجد. ولو كانت الأم حية فحق الإذن إليها وليس إلى الجدات من ذلك شيء بمنزلة حق الحضانة وكذلك مع بقاء الأب ليس للأجداد إذن في هذا الباب. وإن كان له أو أم أب فليس يبغي له أن يخرج حتى يأذنا له لأن أم الأب إذا لم يكن سواها أحد من الأمهات بمنزلة الأم ألا ترى أن حق الحضانة لها. وأشار في الكتاب إلى أن له مخالفاً في هذه المسألة ولم يبين من هو فكأن هذا المخالف يقول: أم الأب تدلي بالأب وإذا لم يعتبر إذن الجد الذي يدلي بالأب مع الأب لم يعتبر إذن أم الأب بالطريق الأولى وهذا فاسد فإنه لو كان له أم وأم أب فأذنت له الأم كان له أن يخرج ولو كان أم الأب باعتبار هذا الإدلاء كالأب أو كالجد أب الأب لم يكن له أن يخرج إلا بإذنهما قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو حج أو عمرة فكره ذلك أبواه وهو لا يخاف عليهما الضيعة فلا بأس بأن يخرج لأن الغالب في هذه الأسفار السلامة ولا يلحقهما في خروجه مشقة شديدة فإن الحزن بحكم الغيبة يندفع بالطمع في الرجوع ظاهراً. إلا أن يكون سفراً مخوفاً عليه منه نحو ركوب البحر فحينئذ حكم هذا وحكم الخروج إلى الجهاد سواء لأن خطر الهلاك فيه أظهر والسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمناً والأمن في الموضع الذي قصده ظاهراً لا يكون دون السفر للتجارة بل هذا فوقه لقوله تعالى: وإن كان يخرج في تجارة إلى دار الحرب مع عسكر المسلمين فإن كان عسكراً عظيماً كالصائفة فلا بأس بأن يخرج وإن كرها خروجه لأن الغالب من حاله السلامة فإنه لا يعرض نفسه بالاشتغال بالقتال والعسكر العظيم يقوون على دفع شر العدو عنه وعن أنفسهم. وإن كانت سرية أو نحوها لم يسعه أن يخرج إلا بإذنهما لأن خطر الهلاك أظهر في خروجه مع قوم ليس لهم قوة الدفع عنه وإنكن لا يخرج للجهاد مع هؤلاء بغير إذنهما لخطر الهلاك فكذلك لا يخرج للتجارة. وإن كره خروجه للجهاد أولاده أو إخوانه أو أعمامه أو عماته أو زوجته فلا بأس بأن يخرج إذا كان لا يخاف عليهم الضيعة وإنما يخاف منهم الجزع عليه لأن المنع من ذلك باعتبار وجوب بر الوالدين وغيرهما من الأولاد والقرابات لا يساويهما في ذلك فكذلك في المنع من الخروج إلا أن يخاف الضيعة على أحد من هؤلاء فحينئذ لا يسعه أن يخرج ويدع من تلزمه نفقته لأن القيام بتعاهده والإنفاق عليه مستحق عليه بعينه قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوته " وهذا الحكم في الذكور من أولاده الصغار والإناث صغاراً كن أو كباراً إذا لم يكن لهن أزواج والزمنى من الكبار الذين لا حرفة لهم من ذوي الرحم لأن نفقتهم واجبة عليه شرعاً فكذلك زوجته. وأما بنوه الكبار الأصحاء وإخوانه الذين لازمانة بهم فلا بأس بأن يخرج ويدعهم وإن خاف الضيعة عليهم لأنه لو كان حاضراً لم يجبر على نفقتهم وإن ضاعوا فلا يمتنع خروجه بسبب خوف الضيعة عليهم وهذا كله إذا لم يكن النفير عاماً. فأما إذا جاء النفير عاماً فقيل لأهل مدينة: قد جاء العدو يريدون أنفسكم أو ذراريكم أو أموالكم فلا بأس بأن يخرج بغير إذن والديه لأن الخروج في مثل هذه الحالة فرض عين على كل واحد قال الله تعالى: قال: ولا ينبغي للعبد أن يجاهد بغير إذن مولاه ما لم يكن النفير عاماً فإذا كان ذلك فله أن يخرج وليس لمولاه أن يمنعه من ذلك لأن فرضية الخروج عند النفير العام كفرضية الصوم والصلاة وذلك مستثنى للعبد مما ملكه عليه مولاه وإذا تبين هذا في العبد وللمولى عليه ملك على الحقيقة تبين في حق الولد مع الوالدين بطريق الأولى. وكذلك النساء إذا كانت بهن قوة القتال فليخرجن إذ كان النفير عاماً وقد بينا ما صنعت أم سليم يوم حنين وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان " فسمى جماعة من الذين فروا وكان النفير عاماً فاستحسن قتال النساء ومدح من لم يهرب منهم بما قال. فأما إذا لم يكن النفير عاماً فلا ينبغي أن يشتغل النساء بالقتال ولا ينبغي للشواب أن يخرجن أيضاً في الصوائف ونحوها لأن مقامهن في البيوت أقرب إلى دفع الفتنة. فأما العجائز فلا بأس بأن يخرجن مع الصوائف لمداواة الجرحى جاء عن أم عطية قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع غزوات فكنت أطبخ لهم وأداوي الجرحى وأسقيهم الماء. ولا يعجبني أن يباشرن القتال لأن بالرجال غنية عن قتال النساء فلا يشتغلن بذلك من غير ضرورة وعند تحقق الضرورة بوقوع النفير عاماً لا بأس للمرأة أن تقاتل بغير إذن وليها وزوجها بلغنا أن صفية بنت عبد المطلب قتلت يهودياً تسور عليهم حصناً كانوا فيه وإنما كان هذا يوم الخندق وكان النبي صلى الله عليه وسلم جمع النساء في أطم من آطام المدينة وكان حسان بن ثابت معهن فجاء يودي من بني قريظة وأراد أن يتسور الحائط فأمرت صفية حسان بن ثابت بأن يقوم إليه بحجر أو خشب فيقتله فقال حسان: أنا من أرباب اللسان لست من أرباب الضرب والطعان في شيء فقامت بنفسها فقتلته ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك استحسنه منها فعرفنا أنه لا بأس بذلك وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام وإن كره ذلك الآباء والأمهات وفي غير هذه الحالة لا ينبغي لهم أن يخرجوا إلا أن تطيب أنفسهم بذلك. قال: بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين فلو حضر قتالاً لقاتل فهذا لا بأس به والروايات اختلفت في سن علي رضي الله عنه حين أسلم فالذي ذكره محمد في هذا الكتاب التسع والعشر وفي رواية أنه أسلم وهو ابن سبع سنين وفي رواية أنه أسلم وهو ابن خمس سنين واختلاف الرواية بهذه الصفة يبتنى على اختلاف الناس في سنة حين قتل فقال جعفر بن محمد: قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة وقال الجاحظ: قتل وهو ابن ستين وقال العتبي: قتل وهو ابن ثلاث وستين ولا خلاف في أنه أسلم في أول مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بعث بمكة ثلاثة عشرة سنة وبالمدينة عشراً والخلافة بعده ثلاثون سنة انتهى ذلك بقتل علي رضي الله عنه فذلك ثلاث وخمسون فإن كانت سنة حين قتل ما قاله جعفر بن محمد ظهر أنه أسلم وهو ابن خمس ستين وإن كان على ما قاله الجاحظ فقد أسلم وهو ابن سبع سنين وإن كان على ما قاله فقد أسلم وهو ابن عشر سنين ولا خلاف أنه لم يكن بالغاً حين أسلم وعليه دل قوله: سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلم وإنما حققنا هذا لاعتماد أصحابنا على هذا الحديث في صحة إسلام الصبي. قال: وإذا خرج القوم إلى الصوائف فأرادوا أن يخرجوا معهم النساء بغير منفعة إلا المباضعة والخدمة فالمستحب أن لا يفعلوا ذلك مخافة عليهن لأن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنهن ومن خرج للقتال ربما يبتلى بعارض يشغله بنفسه ولا يتمكن فيه من الذب عن حرمه واقتضاء الشهوة بالمباضعة ليس من أصول حوائجه ولا ينبغي أن يعرض حرمه للضياع لأجله ولو لم يكره له الخروج بهن إلا لمخافة أن يشتغل بهن عن القتال لكان ذلك كافياً. فإن كان لا بد من إخراجهن فالإماء دون الحرائر لأن حكم الاختلاط بالرجال في حق الإماء أخف ألا ترى أن جميع الناس لهن بمنزلة المحرم في النظر والمس وأنه لا بأس للأمة أن تسافر بغير محرم وليس للحرة ذلك إلا مع زوج أو محرم وما هو المقصود له من المباضعة والخدمة يتم بالإماء. ولكن مع هذا رخص في إخراج الحرائر والإماء لمن يقوى على حفظهن إن ابتلي المسلمون بهزيمة حتى يخرجهن إلى دار الإسلام إما بقوة نفسه أو بما معه من الظهور والخدم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو قرع بين نسائه وأخرج منهن معه التي تقرع قالت عائشة رضي الله عنها: فأصابتني القرعة في السفر الذي أصابني فيه ما أصابني حين تكلم أهل الإفك بما تلكموا وهي غزوة المريسيع عزوة بني المصطلق من خزاعة. ومعلوم أنه كان يأمن عليهن من الضياع بمن معه من المسلمين فمن يكون بهذه الصفة فلا بأس له بأن يخرجهن وإنما يكره هذا لمن إذا ابتلي المسلمون بهزيمة لم يقو على إخراجهن واشتغل بنفسه فيكون مضيعاً لهن والتعرض لمثل هذا التضييع حرام شرعاً. وكذلك إن كانوا سرية يدخلون أرض العدو فإنه لا ينبغي لأحد من العجائز أن يخرج معهم لمداواة الجرحى لأنهم جريدة خيل إذا حزبهم أمر اشتغلوا بأنفسهم ولا يتمكنون من الدفع عنها وهي عاجزة عن الدفع عن نفسها وإنما يحل لها ذلك في الصوائف التي أكبر الرأي فيها أنهم قاهرون لا ينهزمون من العدو فيتمكنون من الدفاع عنها وعن أنفسهم. والحاصل أن الحكم يبنى على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقة الحال فيه. ولا بأس بإدخال المصاحف في أرض العدو لقراءة القرآن في مثل هذا العسكر العظيم ولا يستحب له ذلك إذا كن يخرج في سرية لأن الغازي ربما يحتاج إلى القراءة من المصحف إذا كن لا يحسن القراءة عن ظهر قلبه أو يتبرك بحمل المصحف أو يستنصر به فالقرآن حبل الله المتين من اعتصم به نجا إلا أنه مهني عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو به ولهذا لو اشتراه ذمي أجبر على بيعه والظاهر أنه في العسكر العظيم يأمن هذا قوتهم وفي السرية ربما يبتلى به لقلة عددهم فمن هذا الوجه يقع الفرق والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى أن يسافر بالقرآن في أرض العدو ". تأويله هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم. هكذا ذكره محمد وذكر الطحاوي أن هذا النهي كان في ذلك الوقت لأن المصاحف لم تكثر في أيدي المسلمين وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدي العدو أن يفوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين ويؤمن من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء قال الطحاوي: ولو وقع مصحف في يدهم لم يستخفوا به لأنهم وإن كانوا لا يقرون بأنه كلام الله فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات وأبلغ المعاني فلا يستخفون به كما لا يستخفون بسائر الكتب لكن ما ذكره محمد أصح فإنهم يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين وقد ظهر ذلك من القرامطة حين ظهروا على مكة جعلوا يستنجون بالمصاحف إلى أن قطع الله دابرهم ولهذا منع الذمي من شرى المصحف في هذا الحكم فأما كتب الشعر فلا بأس بأن يحمله مع نفسه وكذلك إن اشتراه الكافر لا يجبر على بيعه. وإن دخل إليهم مسلم بأمان فلا بأس بأن يدخل معه المصحف إذا كانوا ربما لا يوفون بالعهد فلا ينبغي له أن يحمل المصحف مع نفسه إذا دخل دارهم بأمان وإذا قال الحربي أو الذمي للمسلم: علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه وفقهه في الدين لعل الله يقلب قلبه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على المشركين وبه أمر قال الله تعالى: مِن رَّبِّكَ} يعني: يسمع فيفهم فربما يرغب في الإيمان لما يقف عليه من محاسن الشريعة وهذا هو المراد من قوله: لعل الله يقلب قلبه وفي حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس من تعلم القرآن وعلمه " ولم يفصل بين تعليم المسلمين وتعليم الكفار وإذا كان يندب إلى تعليم غير المخاطبين رجاء أن يعملوا به إذا خوطبوا فلأن يندب إلى تعليم المخاطبين رجاء أن يهتدوا به ويعملوا كان أولى. وإذا دخل المشركون دار الإسلام فأخذوا الأموال والذراري والنساء ثم علم بهم جماعة المسلمين ولهم عليهم قوة فالواجب عليهم أن يتبعوهم ما داموا في دار الإسلام لا يسعهم إلا ذلك لأنهم إنما يتمكنون من المقام في دار الإسلام بالتناصر وفي ترك التناصر ظهور العدو عليهم فلا يحل لهم ذلك وفعل أهل الحرب بهذه الصفة منكر قبيح والنهي عن المنكر فرض على المسلمين والذين وقع الظهور عليهم صاروا مظلومين ويفترض على المسلمين دفع الظلم عن المظلوم والأخذ على يدي الظالم قال لعيه السلام: لان حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً. فإن دخلوا بهم دار الحرب نظر فإن كان الذي في أيديهم ذراري المسلمين فالواجب على المسلمين أيضاً أن يتبعوهم إذا كان غالب رأيهم أنهم يقوون على استنقاذ الذراري من أيديهم إذا أدركوهم ما لم يدخلوا حصونهم لأنهم ما ملكوا الذراري بالإحراز بدار الحرب فكونها في أيديهم في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء والمعتبر تمكن المسلمين من الانتصاف منهم وذلك قائم باعتبار الظاهر ما لم يدخلوا حصونهم. فأما إذا دخلوا حصونهم فإن أتاهم المسلمون حتى يقاتلوهم لاستنقاذ الذراري فذلك فضل أخذوا به وإن تركوهم رجوت أن يكونوا في سعة من ذلك لأن الظاهر أنم بعدما وصلوا إلى مأمنهم ودخلوا حصونهم يعجز المسلمون عن استنقاذ الذراري من أيديهم إلا بالمبالغة في الجهد وبذل النفوس والأموال في ذلك فإن فعلوه فهو العزيمة وإن تركوه لدفع الحرج والمشقة عن أنفسهم كان لهم في ذلك رخصة ألا ترى أنا نعلم أن في يد الكفار بالروم والهند بعض أسارى المسلمين ولا يجب على كل واحد منا الخروج لقتالهم لاستنقاذ الأسارى من أيديهم. فإما إذا كان ما ظهروا عليه المال دون الذراري فإذا دخلوا دار الحرب وسع المسلمين أن لا يتبعوهم بعد ذلك وإن كانوا تبعوهم فهو أفضل لأنهم ملكوا الأموال بالإحراز وانتهت العصمة الثابتة فيها بالإحراز بدار الحرب فالتحقت بسائر أموالهم والمسلمون في سعة من أن يتركوا أتباعهم لأخذ أموالهم من أيديهم وإن كانوا لو فعلوا ذلك لإعزاز الدين وقهر المشركين كان أفضل فكذلك حكم هذه الأموال. والحكم فيما إذا ظهر أهل الحرب على ذراري أهل الذمة أو على أموالهم على نحو ما ذكرنا أيضاً لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا من أهل دار الإسلام ألا ترى أن الإحراز بعقد الذمة للمال والنفس في حمن الضمان والعقوبة بمنزلة الإحراز الذي للمسلم فيستوي الحكم في وجوب الاتباع والدليل على الفرق بين الأموال والذراري بعد دخول دار الحرب أنهم لو أسلموا سلمت لهم الأموال وأمروا برد الذراري وفي دار الإسلام لو أسلموا أمروا برد الأموال والذراري والمسلمون وأهل الذمة في ذلك سواء فيتضح الفرق. وإن كان المسلمون حين بلغهم هذا النفير أكبر الرأي منهم أنهم إن خرجوا في إثرهم لم يدركوهم حتى يدخلوا حصونهم في الذراري أو حتى يدخلوا دار الحرب في الأموال رجوت أن يكونوا في سعة من ترك الاتباع لأن البناء على الظاهر جائز في مثل هذا والظاهر أنهم في الخروج يتعبون أنفسهم من غير فائدة وإنما الذي يفترض فيه الخروج بعينه على كل من يبلغه إذا كان أكبر الرأي منه أنه إذا خرج أدركهم وقوي على الاستنقاذ من أيديهم بمنعة من المسلمين على ما بينا. قال: ولا بأس للذين يسكنون الثغور من المسلمين أن يتخذوا فيها النساء والذراري وإن لم يكن بين الثغور وبين أرض العدو أرض للمسلمين لأنهم يندبون إلى المقام في الثغور وإنما يتمكنون من المقام بالنساء والذراري فالنساء سكن للرجال ولأنهم إذا أقاموا في ذلك الموضع بالنساء والذراري كثروا بمرور الزمان حتى يصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين ويتخذ المسلمون وراء ذلك ثغراً بالقرب من العدو. ولكن هذا إذا كانوا بحيث لو نزلت بهم جلبة العدو قدروا على دفع شرهم عن أنفسهم وعن ذراريهم وتمكنوا من أن يخرجوهم إلى أرض الإسلام فأما إذا لم يكن بهذه الصفة أي كانوا عدداً قليلاً لا يتمكنون من دفع جلبة العدو ولا يقدرون على إخراج الذراري إلى أرض الإسلام. فإنه لا ينبغي لهم أن يتخذوا النساء في مثل هذه الثغور لأن الظاهر أنهم يضيعون في مثل هذه الثغور ويأمنون الضياع في الفصل الأول وهو نظير ما سبق من الفصل بين الصائفة والسرية إلا أن هناك كره إخراج النساء مع الجيش العظيم للمباضعة ولم يكره ذلك في الثغر إذا كثر فيه المسلمون لأن أهل العسكر لا يطول مقامهم في دار الحرب فلا يحتاجون إلى النساء مدة مقامهم في الظاهر فإما أهل الثغور يطول مقامهم في الثغر بل يؤمرون بأن لا يبرحوا منها وإذا كانوا عزاباً ضجروا بالمقام فيها فلهذا لم ير بأساً بأنه يتخذوا فيها النساء والذراري. فإن قال أهل الثغر: لا نقدر على دفع العدو بأنفسنا إن أتانا ولكن نستغيث بالمسلمين فيأتينا الغياث منهم فندفع بهم العدو فإنه لا ينبغي لهم أن يحملوا النساء والذراري إلى مثل هذه الثغور أيضاً لأنهم لا يقوون على الدفع عنهم بأنفسهم ولحوق الغوث بهم للدفع موهوم ولا يبنى الحكم على الموهوم خصوصاً فيما يكون الواجب فيه الأخذ بالاحيتاط ألا ترى أنه يتوهم أن تقع فتنة أو عصيبة بين المسلمين فيشتغل بعضهم ببعض. حتى لا يقدروا على إغاثة تلك الثغور فيضيع من فيها من النساء والذراري فلهذا لا يستقيم البناء على الغوث وإنما يبنون ذلك على شوكة أنفسهم. وذكر عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ترك دابة بمهلكة فهي لمن أحياها وبظاهر هذا الحديث أخذ بعض العلماء فقالوا: إذا ترك الغازي دابته في هزيمة فأخذها مسلم آخر وأخرجها فهو أحق بها لأن الأول تركها معرضاً عنها وإنما كان مالكاً لها لكونه محرزاً لها بيده فإذا زال ذلك التحقق بالصيود فهي لمن أخذها وأحياها. ولسنا نأخذ به فإن هذا تسييب أهل الجاهلية وقد نفاه الشرع قال الله تعالى: وذكر عن الشعبي أنه قال: يأخذها صاحبها ولا نفقة له على الذي أحياها إن كان أنفق من ماله وبهذا تبين أن الحديث الأول وهم فالشعبي هو الذي رواه وما كان يفتي بخلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم مثل هذا الحديث الشاذ لا يكون معمولاً به إذ كان مخالفاً للأصول فكان الرجوع إلى المقام المتفق على قبوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه " أولى وكذلك قوله عليه السلام: " من وجد عين ماله فهو أحق به " دليل على صحة ما قلنا وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: يأخذها صاحبها ويرد على النفق ما أنفق عليه من ماله وقال الشعبي: ليس عليه شيء من النفقة إن كان أنفق بغير ما أنفق عليه من ماله وقال الشعبي: ليس عليه شيء من النفقة إن كان أنفق بغير إذنه وبقول الشعبي نأخذ لأنه متبرع بالإنفاق على مالك الغير إذنه وهو يريد أن يلزمه ديناً في ذمته لنفسه وليس لأحد هذه الولاية على غيره فأما عمر بن عبد العزيز كان يقول: دلالة الإذن في الإنفاق من صاحبها معلوم بطريق الظاهر لأنه لو تمكن من إخراجها أنفق عليها من مال نفسه فإذا عجز عن ذلك كان مستعيناً بكل من يقوى على ذلك راضياً بأن ينفق عليها من ماله ودلالة الإذن كصريح الإذن ولكنا نقول: هذه الاستعانة والرضا يحتمل أن يكون منه على وجه التبرع ويحتمل أن يكون على وجه الرجوع عليه بما ينفق والمحتمل لا يصلح حجة لإيجاب الذين له في ذمته وهو نظير المودع ينفق على الوديعة في حال غيبة صاحبها بغير أمر القاضي فإنه لا يرجع على صاحبها بما أنفق لهذا المعنى كذا هذا والله الموفق. M0ا صاحب الساقة إذا وجد في أخريات الناس رجلاً مع دابته وإذا جعل أمير العسكر على الساقة رجلاً يلحق من تخلف بالمعسكر فهو حسن في دخول دار الحرب والانصراف منها لأن فيه نظراً للمسلمين فالذي يغلبه النوم أو يعيي ربما يجلس أو ينام للاستراحة في موضع الخوف ثم لا يلتحق بالجيش فيضيع. وإذا كان على الساقة من يكلفه اللحوق بالعسكر يؤمن عليه الضياع وفي نظيره قال عمر رضي الله عنه: لو تركتم لبعتم أولادكم. فإن وجد صاحب الساقة رجلاً قامت عليه دابته فأمره أن يترك الدابة ويلتحق بالعسكر كيلا يهلك فأخذه وألحقه بالعسكر وترك دابته فهلكت لم يضمن له شيئاً لأنه ما تعرض للدابة بشيء إنما أحسن إلى صاحبها حين ألحقه بالعسكر ولو أساء إلى صاحبها بأن حبس صاحب المواشي حتى ضاعت مواشيه لم يضمن شيئاً فإذا أحسن إليه كان أولى ولأن الرجل ابتلي ببليتين: إما يضيع دابته أو يضيع نفسه إن وقف معها ومن دفع إلى شرين فعليه أن يختار أهونهما وذلك ترك الدابة فصاحب الساقة أمره بما يحق عليه فعله شرعاً فيكون محسناً وما على المحسنين من سبيل. وإن كان أخذ الدابة من يد صاحبها فنحاها عنه ثم منعه من أخذها فهلكت فهو ضامن له قيمتها لأنه فوت له يده بصنع أحدثه في الدابة وذلك غصب منه توضيحه أنه أمر بإزالة يد صاحب الدابة عن الدابة وإنما أمر بإلحاقه بالعسكر وهو فيما أمر به غير محتاج إلى التعرض لدابته فيكون ضامناً له قيمتها إذا أخرجها من يده كغيره وكذلك إن ذبحها صاحب الساقة أو ضربها فقتلها فهو ضامن وهذا أظهر. فإن أخذ صاحب الدابة بلجام دابته ففك صاحب الساقة يده وألحقه بالعسكر وترك الدابة في موضعها لم يضمن شيئاً لأن صنعه حل بيد صاحبها لا بالدابة وهذا دليل لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في أن ضمان الغصب لا يجب إلا باعتبار صنع في المغصوب يفوت يد المالك بتحويله عن الموضع الذي كان يد المالك عليه ثابتاً فيه فإنه إذا أخذ لجام الدابة نحاها كان ضامناً وإذا فك يد صاحبها عن اللجام لم يكن ضامناً وتلف الدابة في الموضعين حاصل بسبب واحد إلا أن محمداً رحمه الله يسلم هذا الأصل فيما يحتمل النقل ولكنه يقول فيما لا يحتمل النقل: يقام غيره مقامه باعتبار تفويت ثمرات الملك على المالك كما تشترط الإشارة في الدعوى والشهادة إلى العين فيما يحتمل النقل إلى مجلس القاضي ثم فيما لا يحتمل يقام ذكر الحدود مقامه للتيسير. وكذلك لو كان الرجل راكباً فأنزله كرهاً وألحقه بالعسكر لم يضمن دابته لأنه لم يصنع فيها شيئاً إنما صنعه في صاحبها. وإن أخذ صاحب الساقة الرجل فألحقه بالعسكر وترك دابته فمر بها سرية كانوا على إثرهم فعلفوها وقاموا عليه حتى ألحقوها بالعسكر ثم حضر صاحبها فهو أحق بها لأن وجد عين ماله فيكون أحق به وليس لهم أن يرجعوا عليه بما أنفقوا لأنه لم يأمرهم بذلك وقد بينا هذا وحكي أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان له رمح طويل وكان إذا شق عليه حمله ألقاه على الطريق فيمر به بعض الأعراب ممن يكون في آخر العسكر فيأخذه وهو لا يعرف قصته حتى يأتي به المنزل فيجيء الزبير ويقول: جزاك الله خيراً فيما حملت من رمحي فيأخذه فعل ذلك غير مرة فإن كانوا حين أتوا بها العسكر أخبروا الأمير خبرها فأمرهم أن ينفقوا عليها حتى يجدوا صاحبها ففعلوا ذلك ثم حضر صاحبها أخذها وأعطاهم ما أنفقوا بعد أمر الأمير ولم يعطهم شيئاً مما أنفقوا قبل ذلك لأن في هذا الأمر نظراً لصاحبها بإحياء ملكه وإمساكه عليه والدابة لا تبقى بدون النفقة والإنسان لا يرضى بالتبرع بالإنفاق على ملك الغير وللأمير ولاية النظر لكل من عجز عن النظر لنفسه من الجند فكان أمره بذلك كأمر صاحب الدابة حين صدر عن ولاية شرعية. فإن قالوا: أنفقنا عليها بعد المر كذا وذلك نفقة مثلها وقال صاحبها: لم ينفقوا عليه من ذلك شيئاً فالقول قول صاحبها لأنهم يدعون في ذمته ديناً لأنفسهم وهو منكر فيكون القول قوله بعدما يحلف على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير وهو إنفاقهم عليها فيكون على العلم دون الثبات. فإن أقاموا شاهدين مسلمين على ما ادعوا أو كان إنفاقهم بعلم الأمير رجعوا على صاحبها ولا يلتفت إلى إنكاره لثبوت ما ادعوا بحجة حكمية وذلك علم الأمير أو شهادة شاهدين. فإن كانوا حين رفعوها إلى الأمير وشهد الشهود أنهم وجدوها لا يدرون لمن هي إن رأى الإمام أن يبيعها فباعها جاز لأن ذلك نظر منه لصاحبها فالإنفاق ربما يأتي على ماليتها وحفظ ثمنها أيسر من حفظ عينها وللأمير ولاية النظر على جنده وليس لصاحبها إذا حضر أن يبطل البيع وإنما حقه في ثمنها فإن كان أمرهم بالإنفاق زماناً ثم باعها فقالوا: أعطنا من الثمن ما أنفقنا وأقاموا البينة على ما ادعوا من النفقة قبل أن يحضر صاحبها أو بعدما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره لأنهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها أو بعدما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره لأنهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها بإحيائهم مالية هذه الدابة ولهذا لو حضر صاحبها كان لهم أن يحبسوها حتى يأخذوا ما أنفقوا بمنزلة راد الآبق يحبسه بالجعل والثمن بدل تلك المالية فيعطيهم الأمير مقدار حقهم من ذلك وهذه البينة مقبولة منهم قبل حضور صاحبها باعتبار أن الأمير خصم فيه عن صاحبها كما تقبل البينة مقبولة كما تقبل البينة منهم في ابتداء الأمر بالإنفاق فإنهم لو قالوا للأمير: وجدنا هذه الدابة ولا نعرف صاحبها أمرهم بأن يأتوه بشهود على ذلك ويقبل بينتهم ليأمرهم بالإنفاق. فإن لم يأتوه بشهود ورأى الأمير النظر في أن يأمرهم بذلك فلا بأس بأن يقول: أمرتهم أن ينفقوا عليها على أنه إن كان الأمر كما زعموا رجعوا على صاحبها وإلا فلست آمرهم بشيء من ذلك ويشهد على هذا أو يقول: أمرتهم ببيعها وإنفاق ثمنها إن كان الأمر كما ذكروا وإن كان الأمر على غير ما زعموا فلست آمرهم بشيء من ذلك وهذا لأن الإشهاد بهذه الصفة يتمحض نظراً لصاحبها بأنهم إن كانوا صادقين يحيا ملكه بهذا وإن كانوا غاصبين لا يستفيدون البراءة عما لزمهم من الضمان بهذا ولذلك لا يجوز البيع باعتبار هذا الأمر إذا كان من في يده غاصباً. فإن حضر صاحبها وقد هلك الثمن في يد من باعها بعد أمر الأمير بهذه الصفة فإن أقر بما أخبر المخبر به الأمير فهو بريء من ضمانه وضمان ثمنه لأنه تبين أن البيع كان بإذن صحيح. وإن جحد صاحبها ذلك فالبائع ضامن لقيمتها حتى يقيم البينة على ما يدعي فرن أقام البينة على م يدعي فالثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصم فإن وجد صاحبها الدابة في يد المشتري كان له أن يأخذها إذا أقام البينة أنها له لأنه وجد عين ماله. فإن أقام المشتري البينة. على ما قاله الواجد وعلى ما أمره به الأمير سلم له ما اشترى لأنه أثبت سبب ملك صحيح لنفسه بالبينة. وإن لم يكن له بينة أخذ الدابة صاحبها ورجع المشتري على البائع بالثمن لاستحقاق المبيع من يده. فإن أقام البائع البينة على ما ادعى من أنه وجدها ضائعة وأن الأمير أمره ببيعها برئ هو من الثمن بمحضر من الذي استحقه وهذا التقييد دليل على مسألة أخرى وهو أن المشتري إذا استحق منه المبيع فأراد أن يرجع بالثمن على البائع فأقام البائع بينة على أمر يبطل به استحقاق المستحق إن كان ذلك بحضرة المستحق تقبل وإلا فلا ورجع المشتري فأخذها من المستحق لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وأي قاض رفع إليه هذه الحادثة وسئل إجازة البيع لم يجزه حتى تقوم البينة عنده على جميع ما بينا لأن ولاية الإجازة إنما تثبت له إذا ظهر جميع ذلك عنده ولا يظهر إلا بالحجة والله المعين. M0ا سجدة الشكر وإذا أتى الأمير أمر يسره فأراد أن يشكر الله تعالى عليه فلا بأس بأن يكبر مستقبل القبلة فيخر ساجداً يحمد الله تعالى ويشكره ويسبح ويكبر تكبيرة ويرفع رأسه وهذه سجدة الشكر وهي سنة عند محمد وكذلك في قول أبي يوسف رواه عنه ابن سماعة فأما أبو حنيفة فكان لا يراها شيئاً أي شيئاً مسنوناً أو لا يراها شكراً تاماً فإن تمام الشكر في أن يصلي ركعتين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يكرهها وهكذا روي ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لأنه لو فعله من يكون منظوراً إليه ربما يظن ظان أن ذلك واجب أو سنة متبعة عند حدوث النعم فيكون مدخلاً في الدين ما ليس منه وقال عليه السلام: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " وما من ساعة إلا وفيها نعمة متجددة لله تعالى على كل أحد من صحة أو غير ذلك فلو اشتغل بالسجود عند كل نعمة لم يتفرغ لشغل آخر ولما وفق حتى سجد كان ذلك نعمة ينبغي أن يسجد لها ثانياً ولكن استحسن محمد الآثار المروية في الباب. منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بشر ببشرى تسره خر ساجداً لله وروي أنه عليه السلام مر برجل به زمانة فسجد ومر به أبو بكر وعمر ففعلا ذلكن وفي كتب الحديث يروى أن النبي عليه السلام مر بنغاشي فسجد يعني ناقص الخلق. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما أتاه فتح اليمامة سجد وعن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع علي بن أبي طالب بالنهروان فقال: التمسوه يعني ذا الثدية فالتمسوه فلم يجدوه فجعل يعرق جبينه ويقول: ما كذبت ول كذبت فوجدوه في ساقية أو بئر فسجد علي رضي الله عنه سجدة وأصل هذا ما روي أنه لما قاتل علي رضي الله عنه الحرورية قال: انظروا فإن فيهم رجلاً إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة حدثني نبي الله أني صاحبه فقلبوا القتلى فلم يجدوه فقال: انظروا فوالله ما كذبت ولا كذبت قالوا: فإن سبعة نفر تحت نخل لم نقلبهم بعد قال: انظروا قال الراوي: فرأيت في رجليه حبلاً جروه به حتى ألقوه بين يديه فخر لله ساجداً وقال: أبشروا وإنما فعل هذا لأنه أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بأن القوم الذي فيهم رجل بهذه الصفة يقاتلونك وهم على الضلالة فحين وجدوه كان ذلك نعمة عظيمة فلهذا خر لله ساجداً وبالله العون والتوفيق.
|